غزة بين الجوع والإذلال.. مشاهد مُخزية تفضح استغلال الأطفال باسم "الإغاثة وجمع التبرعات"

نشطاء طالبوا بفتح تحقيقات عاجلة

غزة بين الجوع والإذلال.. مشاهد مُخزية تفضح استغلال الأطفال باسم "الإغاثة وجمع التبرعات"
فلسطينيون يحصلون على مساعدات إنسانية

أثارت مشاهد مصورة حديثًا من قطاع غزة صدمةً واسعة وغضبًا عارمًا على منصات التواصل الاجتماعي، بعد أن كشفت مقاطع فيديو قيام بعض الجمعيات والمبادرات باستخدام أطفال في مشاهد تمثيلية لتوزيع مساعدات إنسانية، ثم سحبها منهم فور انتهاء التصوير، في مشهدٍ وُصف بأنه مهين ولا يمت للإنسانية بصلة.

وتظهر المقاطع المنشورة شبابًا يرتدون سترات إغاثية يوزعون مساعدات على أطفال، ثم يسحبونها منهم بعد التصوير، ما دفع العديد من الحسابات إلى وصف الأمر بـ"النصب والتسويق الرخيص"، مؤكدين أن كرامة أطفال غزة لا تُشترى ولا تُباع ولا تُستخدم كورقة في مسرحيات جمع الأموال.

وهذه اللقطات التي تُعرض بشكل مكثف على المنصات الإلكترونية بهدف استدرار عطف العالم وجلب التبرعات، فُسرت من قبل نشطاء حقوق الإنسان بأنها جريمة قانونية كاملة الأركان، ووصمة عار في سجل من يدعون العمل الإنساني.

ودعا العديد من النشطاء والمؤسسات الحقوقية بفتح تحقيق فوري وشامل في أنشطة تلك الجمعيات التي تستخدم الأطفال في دعايات إعلامية دون أدنى اعتبار للكرامة الإنسانية، ومحاسبة كل من يشارك أو يبرر أو يصمت على هذا الانحدار الأخلاقي.

ويعيش قطاع غزة أوضاعًا إنسانية مأساوية منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023، غير أن ما تقوم به بعض الجمعيات من استغلال لمعاناة الأطفال يشوّه جوهر العمل الإغاثي ويقوض ثقة العالم في تلك المبادرات.

جريمة مكتملة الأركان

وبحسب الخبير الحقوقي ورئيس شبكة الدفاع عن الأطفال، أحمد مصيلحي، فإن تصوير أطفال في قطاع غزة في ظروف إنسانية قاسية لاستجداء التبرعات يُعد انتهاكًا صريحًا للقانون الفلسطيني وللقوانين الدولية كافة، مضيفًا أن "ما يحدث هو اتجار واضح بالبشر، فالأطفال لا يملكون إرادة الرفض أو القبول، وهم في حالة ضعف قصوى يُستغل فيها براءتهم لتحقيق مكاسب مالية، وهذا يُجرّم تمامًا وفق القانون، حتى وإن زُين بحسن النوايا".

وشدد مصيلحي، في تصريح لـ"جسور بوست" على أن هناك وسائل قانونية وشرعية للحصول على التبرعات دون إهانة كرامة الأطفال أو المتاجرة بصورتهم، متسائلًا: "لماذا لا تستخدم قنوات رسمية محترمة بدلًا من التمثيليات الرخيصة التي تُهين الإنسانية وتُفرغ العمل الإغاثي من مضمونه؟".

تبريرات مرفوضة

في ما حاول مسؤول إغاثي فلسطيني التبرير، طلب عدم ذكر اسمه، في حديث لـ"جسور بوست"، مدافعًا عن تلك المشاهد بدعوى "حُسن النوايا وسط المجاعة والدمار والغلاء الفاحش"، إلا أن هذا التبرير قوبل باستهجان شديد من خبراء وحقوقيين اعتبروه محاولة فاشلة لتغطية فضيحة أخلاقية وقانونية.

وبدوره هاجم السفير الفلسطيني السابق بركات الفرا بشدة هذه الأفعال قائلًا: "هذا استغلال صارخ للأطفال في مشهد مقزز، لا يمكن تبريره مهما كانت الظروف. من يريد دعم غزة، فليدعمها دون إهانة كرامة أبنائها".

وأضاف: "نحن نعيش كارثة إنسانية بسبب الاحتلال، لكن لا يجوز أن نتحول نحن إلى من يُضيف للألم وجعًا آخر باستغلال الأطفال"، داعيًا الجمعيات والمبادرات المحلية إلى الكف فورًا عن هذه الأفعال المشبوهة.

الإذلال العلني

وفي الوقت الذي يئن فيه قطاع غزة تحت وطأة المجاعة والقصف والدمار، وبينما تتفاقم معاناة الأطفال والنساء وسط كارثة إنسانية شاملة، تتصاعد موجة الغضب الشعبي والحقوقي ضد بعض الجمعيات والمبادرات المحلية التي تمتهن استغلال الأطفال إعلامياً، متذرعةً بـ"نية طيبة" و"طلب المتبرعين".

ورغم حالة الاستياء التي فجرتها مقاطع فيديو تُظهر توزيع مساعدات لأطفال ثم سحبها بعد التصوير، خرج مسؤولون من تلك الجمعيات لتبريره على اعتبار أنه "مشهد عفوي للتوثيق"، إذ علق الإغاثي الفلسطيني بشار مراد على هذه المشاهد في تصريح لـ"جسور بوست"، بقوله: "التصوير يتم أولًا ثم تُعاد المساعدات بعد نصف ساعة إلى كل من تم تصويره.. وهذه الصور مطلوبة للتوثيق وإرسالها للمتبرعين".

لكن هذه التبريرات لم تقوَ أمام سيل الانتقادات الحقوقية، حيث اعتبر ناشطون حقوقيون أن مجرد استخدام معاناة الأطفال كأداة بصرية لإقناع الممولين هو شكل فاضح من الاتجار بالبشر، مهما كانت النوايا المعلنة، حيث أكد مراد أن الأسواق فارغة والأسعار خيالية، الطماطم بـ18 دولارًا، والبطاطا بـ40 دولاراً، والمجاعة تضرب العائلات في كل مكان بغزة.

ولم يفسر مراد لماذا تمارس هذه الجمعيات الإذلال العلني بحق الأطفال تحت عدسات الكاميرات، بدلًا من توزيع المساعدات بكرامة، فيما قال المحامي الحقوقي أحمد مصيلحي في تصريح لـ"جسور بوست: "المأساة التي تعيشها غزة لا تبرر الإهانة، حيث ترقى هذه المقاطع المصورة إلى جريمة اتجار بالبشر، وليس مجرد خرق أخلاقي فحسب".

وأضاف: "المصيبة هنا مزدوجة لأن شعب يُباد تحت القصف، وأطفاله يُستغلون إعلاميًا لجلب الأموال، دون أي شفافية بشأن هذه التبرعات أو آليات إنفاقها، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول أهداف تلك المبادرات ومصادر تمويلها".

قطاع غزة يغرق

وفي تقرير حديث صدر في 10 يوليو الجاري، أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن غزة تعيش كارثة غير مسبوقة، حيث تجاوز عدد شهداء الطواقم الطبية 1,500، وسُجّلت مجازر متكررة بحق مخيمات وخيام للنازحين، خصوصًا في مدينة غزة ودير البلح.

وحذر "أوتشا" من انهيار النظام الصحي بالكامل مع قرب توقف المولد الكهربائي في مجمع ناصر الطبي بخان يونس، وتوقّف عشرات آبار المياه شمال غزة، ما خلق بيئة خصبة لتفشي الأمراض، خاصة بين الأطفال وكبار السن.

كما أشار التقرير إلى عجز المنظمات الإنسانية عن التحرك بحرية داخل القطاع، بسبب التعطيل الإسرائيلي الممنهج، حيث رُفضت عدة محاولات لإدخال مساعدات طبية أو إزالة الأنقاض.

ورغم هذا الواقع الكارثي، اختارت بعض الجمعيات أن تحول الأطفال من ضحايا إلى أدوات دعائية، تُستخدم في حملات مشبوهة لجلب التمويل، دون أي رادع قانوني أو رقابة مجتمعية، ما يدق ناقوس خطر حول انحراف سلوك بعض الجهات العاملة داخل غزة عن المسار الإنساني.

في الوقت الذي يُفترض أن تتسابق فيه المبادرات والجمعيات لرد الكرامة لأطفال غزة وإنقاذهم من براثن المجاعة والحرب، نجد من يختار استغلال وجوههم البريئة وعدسات الكاميرات وسيلة لجمع الأموال والترويج، متناسين أن الطفل الجائع ليس وسيلة ضغط عاطفية، بل إنسان له كرامة يجب أن تُصان.

ولا تحتاج غزة الجريحة اليوم إلى مزيد من الصور، بل تحتاج لضمائر يقظة، تأبى تبرير استغلال الأطفال الجوعى بدعوى تسويق أوجاعهم لجمع التبرعات.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية